رجع النبي صلى الله عليه وسلم الى داره، ومع الظهر كان الجميع في منازلهم،
قالت امنا عائشة والنبي في حجرتها: فإذا منادي ينادي من خلف الحجرة، يا رسول الله، فقام النبي وخرج، فخرجت ألتمس الخبر فوقفت عند الباب، فإذا برجل على بغلة شهباء يلبس عمامة حمراء، يقول للنبي: أوضعت السلاح؟
فقال النبي: (نعم)، قال: ولكن الملائكة لم تضع السلاح بعد، فأتبعني الى بني قريظة فإني متقدمك إليهم ومزلزل بهم حصونهم،
فقلت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله، من الذي كان يكلمك؟ قال:(أرأيته يا عائشة وسمعتي ما قال؟ هذا اخي جبريل)
ثم لبس لباس الحرب مرة أخرى وأمر بلال أن ينادي بالمسلمين: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة)
وخرج رسول الله والمسلمون واستعمل على المدينة عبد الله بن أم مكتوم فلقد استعمله النبي أربعة عشر مرة، يصلي بالناس ويرعى شئون المدينة، وأعطى النبي الراية لعلي رضي الله عنه فسبق الجيش الى بني قريظة وغرسها في أصل الحصن
فأخذ بني قريظة ينالون من النبي على مسمع علي فلم يرد عليهم وانما قال: السيف بيننا وبينكم،
والمسافة حوالي عشر كيلومتر، وكادت الشمس أن تغيب وتفوت هؤلاء صلاة العصر في وقتها، فصلى البعض العصر وقالوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يقصد النهي عن صلاة العصر الا في بني قريظة وانما كان يقصد أن يسرع الصحابة بالخروج الى بني قريظة، ولم يصلي البعض الآخر العصر وتمسك بأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم تمسكاً حرفياً حتى فاتته صلاة العصر في وقتها فلما أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم أقر الفريقين، فكان قد فتح باب الاجتهاد لأصحابه وهو على قيد الحياة،
فلما وصل النبي نادى عليهم: (يا كعب يا حيي) من وراء الحصن، فلما برزوا قال: (انزلوا إلي يا أخوة القردة والخنازير)،
فقال حيي: يا أبا القاسم، ما عهدناك صخاباً ولا فحاشاً فكررها النبي: (انزلوا إلي يا أخوة القردة والخنازير)، وأخذوا يرمونهم بالسهام، فلما رأى سيد قريظة ذلك دعاهم الدخول بالإسلام وقال: لقد تبين لكم أنه نبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم، وما منعنا من الدخول معه إلا الحسد للعرب حيث لم يكن من بني إسرائيل، فادخلوا في الإسلام تأمنون على دمائكم وأموالكم ونسائكم وأبنائكم، فرفض كل يهود بني قريظة الدخول في الإسلام وقالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، ولا نستبدل به غيره، وطلبوا من الرسول أن يرسل اليهم أحد الصحابة؛ وهو أبو لبابة رضي الله عنه حتى يستشيروه فوافق، وقال:
(يا ابا لبابة، اذهب إلى حلفائك، فإنهم أرسلوا إليك من بين الأوس) فلما دخل ورأوه قام إليه الرجال وبكت النساء والصبيان، فرق لهم، ثم أرادوا ان يستشيروه قالوا: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ فقال: نعم، وأشار لهم بيده الى حلقه فكانت سقطة وخطأ عظيم منه، قال ابو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني خنت الله ورسوله فأنتبه على نفسه، فنزل من عندهم مسرعا وهو يبكي، ولم يرجع الى النبي بل ذهب الى المسجد النبوي، وربط نفسه في أحد أعمدة المسجد بسلسلة ثقيلة وقال: والله لا أحُلُّ نفسي منها حتى يحلني رسول الله بيديه ولا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى يتوب الله علي أو أموت، ثم ضرب عليهم الحصار، واستمر بضعة عشرة ليلة، فأبوا ان ينزلوا على حكم الله ورسوله، فشدد الحصار،
وألقى الله الرعب في قلوبهم فقالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ فأرسل الرسول في طلب سعد بن معاذ رضي الله عنه وكان سعد لا يزال في المدينة، لإصابته في وريده، قال النبي: (لا تؤذوه أحملوه على دابة صغيرة)، واحاط به رجال قومه، وكانت قدماه تخطان على الارض، ورجال من قومه يقولوا له: يا سعد أحسن في مواليك، فإن رسول الله قد حكمك فيهم، لتحسن فيهم يا سعد أحسن إليهم وسعد لا يرد عليهم فلما أكثروا عليه الطلب قال لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم، وكان النبي يجلس بين اصحابه، فلما أطل سعد فألتفت النبي الى الانصار وقال: (قوموا الى سيدكم فأنزلوه) فقاموا معهم النبي، قام المهاجرون ايضاً احتراماً لقيام النبي، فلما أنزلوه، قال له النبي: (يا سعد إن هؤلاء نزلوا على حُكمِك، فاحكم فيهم)، فقام سعد وهو يتكأ على رجلين، فحمد الله واثنى عليه ثم التفت الى جهة اليهود وقال: وعليكم عهد الله وذمته أن حكمي نافذ فيكم لايرد؟ قالوا: نعم ثم نظر الى المسلمين قال: وعلى المسلمين؟ فقالوا: نعم ثم ألتفت الى الجهة التي فيها رسول الله، واطرق رأسه أدباً واجلالاً وتعظيماًوقال: وعلى من ها هنا؟ فقال النبي: (نعم وعليَّ)، فقال سعد: إنِّي أحكُمُ فيهم أنْ تُقتَلَ رجالهم وتُسبَى ذراريُّهم وتُقسَمَ أموالُهم، فوثب النبي قائماً وهو يقول: (والذي نفسي بيده، لقد حكمت فيهم يا سعد بحكم الله من فوق سبع سموات) وعلى الفور بدأ المسلمون بتنفيذ حكم سعد، فقتل في سبع مائة من يهود بني قريظة وحفر لهم قبورهم في ديارهم، وقتل حيي بن أخطب الذي كان له الدور الأبرز في تجميع القبائل،