بعد نزول الآيات من سورة التوبة أحس المنافقون أنهم انكشفوا ولم يبقى إلا أن يذكرهم بأسماءهم، وعلموا أن للنبي موقف وشأن معهم بعد نزول هذه الآيات، فأتمروا ليلاً، واتفقوا على أن يقتلوا النبي غيلة، ومن سنته إذا كان متجهاً الى غزوة، يسير في المقدمة، وهو راجعاً منها يسير في آخر الجيش ويقول: (خلوا ظهري للملائكة وسيروا بين يدي) فقالوا: نقتله غيلة فإنه يسير في آخر الجيش، وعند الظلام نختلط بين الناس فلا يعلم أحد من قتله ومن أغتاله، وأطلع الله نبيه على مؤامرتهم، فأراد أن يكشفهم حتى لا يلام فيهم فلما أنطلق للسير ليلاً، أقبل على وادٍ متسع يسير فيه الجيش وكان على يمين هذا الوادي طريق ضيق يقال له العقبة، فأمر حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وكان يقود ناقة النبي صلى الله عليه وسلم أن ينادي في الجيش: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تسلكوا الوادي، وإنه آخذٌ في العقبة وحده فلا يتبعه أحد، فإن الوادي أيسر لكم وأسهل)، فهمس المنافقون بعضهم لبعضٍ وقالوا: هذه فرصتنا نتبعه ثم نزحمه في الطريق فنلقيه عن ناقته في الوادي فيتردا، ثم نختلط بين الناس فلا يعلم كيف مات فيقولوا عثرت به ناقته فسلك النبي العقبة، وكان معه اثنان من أصحابه فقط حذيفة بن اليمان يقود الناقة وعمار بن ياسر كان خلف الناقة لأنها عقبة حادة، فكان يلتقط بعض المتاع إذا سقط، فتلثم المنافقون حتى يتخفوا تماماً وتبعوا النبي، فلما كانوا على قرب منه، أحس بهم، وكان من عادته لا يلتفت فقال: (من القوم يا حذيفة؟ لقد قلت لا يتبعني احد) فلما علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد احس بهم، اسرعوا بالسير وراء النبي، فجفلت الناقة واهتز بعض المتاع فسقط بعض متاعه ولكن الله ثبته على راحلته ، فلم يؤذى، فترك حذيفة خطام الناقة وأخذ محجناً يضرب وجوه رواحلهم وهو يقول: دونكم دونكم يا اعداء الله ورسوله، واخذ عمار بن ياسر ايضا يدافع عن النبي فخاف المنافقون وانهزموا وانحدروا سريعاً الى الوادي واختلطوا في الناس، فقال النبي: (اعرفتهم يا حذيفة؟)، قال: لا والذي بعثك بالحق ولكني عرفت بعض رواحلهم، قال: (اتعلم ماذا كانوا يريدون؟)، قال: لا والذي بعثك بالحق، قال: (عزموا على ان يلقوا رسول الله من على راحلته حتى يقتل ثم يختلطون بين الناس، فيقولون عثرت به ناقته)، ومضى النبي حتى اتم العقبة ثم انحدر الى الوادي، وكان قد انتهى الليل وقارب الفجر فامر أن يعرس الناس، حتى كان الفجر فصلى به رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر في أرض برحة، ثم أستقبل الناس بوجهه ثم أمر حذيفة أن ينادي: من منكم
تبع النبي في العقبة؟ فلم يتكلم احد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في اصحابي اثنا عشرة منافقاً قد تبعوا محمد رسول الله في هذه الليلة الى العقبة وعزموا أن يلقوه عن ناقته ثم يزعموا أنه قد عثرت به ناقته، ولكن هموا بما لم ينالوا، لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، منهم ثمانية اللهم أرميهم بالدبيلة)،
قالوا: وما الدبيلة يا رسول الله؟ قال: (سراج من نار يظهر بين اكتافهم حتى ينجم من صدورهم)، فوثب أسيد بن حضير فقال: بأبي وامي انت يا رسول الله، اطلعنا عليهم ما دام الله قد أطلعك، فلتقم كل عشيرة الى صاحبها فتضرب عنقه فلا يطالب به أحد، فقال النبي: (لا يا اسيد)، قال: فداك ابي وامي أطلعنا عليهم ، فوالذي بعثك بالحق لا تقوم من مقامك حتى تكون رؤوسهم بين يديك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أكره أن يقول الناس إن محمدا قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله تعالى بهم أقبل عليهم يقتلهم)، فقال: يا رسول الله هؤلاء ليسوا بأصحابك، فقال رسول الله: (أليس يظهرون الشهادة)، فقال: (يا حذيفة سأطلعك على اسماءهم واسماء آباءهم ولكن اكتم عليهم ذلك، حتى تنصح من يلي امركم بعدي). فكان صلى الله عليه وسلم، إذا مات منافق لا يصلي عليه ويقول: (صلوا على صاحبكم)، ويخرج فإذا رأى الصحابة ذلك علموا أن هذا مات على نفاقه.