: بعد النصر، أخذ يبث العيون حتى لا يكون للعدو خطة، فلما اطمئن بأنه لا يوجد لهم تجمع، وأنه قد داخلهم الرعب، قال: (لقد نصرت بالرعب مسيرة شهر)، ثم أراد أن يوجه رسالة للروم وحلفائها من العرب، فكان منهم ملك دومة الجندل، قد نصبه هرقل حاكماً واسمه أكيدر بن عبدالملك الكندي، أرسل له سرية قوامها اربع مئة فارساً بقيادة خالد بن الوليد، وقال: (اذهب لدومة الجندل وأتني بملكها اكيدر حياً لا تقتله)، قال: فإن قاتلني يا رسول الله وتحصن في حصنه؟ قال: (يا خالد إنك ستجده يصيد البقر خارج حصنه فخذه على غرة)، وانطلق حتى اقترب وأرتقب دخول الليل، فجلسوا يرقبون الحصن، وكان اكيدر مع زوجته على سطح الحصن يسمر ليلاً وحوله القينات فسمعت زوجته صوت البقر الوحشي يحك قرونه في باب الحصن، فأطلت وقالت متعجبة: أي اكيدر هل رأيت مثل هذا؟ فنظر على الابقار قال: لا، لطالما أعددت لها الخيل، وهي الآن تأتي الى باب الحصن؟ قالت: فهل يترك هذا؟ قال: لا فأمر بفرسه وخرج ومع نفر من أصحابه، واخاه ولي عهده واسمه حسان، وأخذ في مطاردة البقر، فأخذت البقر تجري الى الجهة التي فيها خالد فتبعها اكيدر فتلقته خيل خالد ودار قتال محدود، انتهت بأسر أكيدر وقتل اخيه حسان وكان يرتدي ثيابا من الحرير مشغولة بالذهب وفي عنقه صليب من ذهب، وفر من معه من رجاله الى الحصن واغلقوا الابواب، فأمر خالد من معه أن يأخذوا سيفه وثيابه وصليبه الذهبي غنيمة، ثم قال لأكيدر: فلتأمر رجالك ليفتحوا أبواب الحصن الآن فقال اكيدر: يا خالد إذا رأى قومي ملكهم اسيراً مجدلاً في الحبال، لن يفتحوا ابواب الحصن ولن يطيعوه لأنه اصبح اسيراً، فإن شئت أن تتم الأمور، ولك علي ذمة الله وعهده أن أصالحك مقابل حقن دماء قومي، ولكن فك قيدي حتى يسمعوا قولي قال خالد: لك ذلك، ففك قيده وتقدم اكيدر ونادى الحراس انا اكيدر افتحوا لي الباب، ففتحوا دون أن تراق قطرة دم واحدة، وصالح على شيء من سلاح ومال مقابل حقن للدماء وعلى أن يسير معه الى النبي، وكان خالد قد أمر بعض اصحابه أن ينطلقوا بما غنموا من حسان ليبشروا النبي بقدوم خالد ومعه ملك دومة الجندل، فوصلوا الى النبي، ووضعوا بين يديه ما غنموا عن حسان، قال الصحابة: فأخذنا نتلمس الثوب ونعجب منه لنعومته وكيف طرز بالذهب، فقال النبي: (اتعجبون من هذا؟ وأشار بيده الى الثوب)، قلنا: نعم يا رسول الله قال:(والذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة يمسح بها يديه ويلقيها أحسن من هذا وأعز)، فجاء خالد ومعه اكيدر، فلما دخل اكيدر على رسول الله ووقع نظره على النبي، أرتعدت فرائصه وخر ساجداً بين يدي رسول الله، فأشار النبي وهو يقول: (لا، لا، لا تفعل إنما انا عبد الله ورسوله، لا ينبغي السجود إلا لله)، فجلس وصالح على دفع الجزية، وكتب له النبي كتاباً وجعله ملكاً على قومه كما كان، ولكن ولائه لدولة الاسلام وخلى سبيله، فلما سمع ملوك وامراء الشام المجاورين للجزيرة بما حدث مع أكيدر أتوا لمصالحة النبي على الجزية، وهكذا أحكم النبي سيطرته على كامل شمال الجزيرة العربية، وفقدت الإمبراطورية الرومانية حلفائها وسقطت هيبتها، ورجع النبي المدينة، في رمضان من السنة التاسعة للهجرة.