جلس الناس بالمسجد وعلا بكائهم، وكانت المدينة قد امتلأت بالناس عندما علموا بمرض النبي صلى الله عليه وسلم، فقال ابو بكر: ارسلوا لإخوانكم خارج المدينة أن قد قبض رسول الله، فليحضروا الى دفنه والصلاة عليه، وأرسل الى جيش اسامة وكان بالجرف فرجع الجيش كله، وغرس اسامة لواء الجيش على باب المسجد وكان تعداد الجيش ثلاثة آلاف، رجعوا ليحضروا الصلاة على نبيهم صلى الله عليه وسلم، وجلس الناس وقد ذهلوا وغاب وعيهم، فأما علي رضي الله عنه فقد كسح، وكان عثمان رضي الله عنه قد خرس فلم يتكلم ولا كلمة إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام، واخذت الوفود تفد حتى غصت المدينة، وقد وأرتفعت اصوات اهل المدينة بالبكاء في كل أنحاء المدينة، ثم اخذوا يتدبرون أمر تجهيزه صلى الله عليه وسلم ودفنه وعندما شرعوا في هذا التشاور، كان قد مضى النهار، وكان إذا دخل وقت الصلاة يصلي بهم ابو بكر الصديق، والنبي مسجاً في حجرته صلى الله عليه وسلم، فأخذوا يتشاورون أين ندفن رسول الله؟ فمن قائلٍ: ندفنه الى جوار منبره، ومن قائلٍ: ندفنه في وسط الروضة، ومن قائلٍ: ندفنه في البقيع، فقال لهم ابو بكر: على رسلكم فو الله الذي لا إله إلا هو لقد سمعت أذناي هاتين من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً ما نسيته وما غاب عني، قال صلى الله عليه وسلم: (ما قبض الله نبياً إلا حيث أراد ان يدفن)، ثم قال: نرفع فراش النبي صلى الله عليه وسلم ويحفر تحت فراشه فهذا موضع قبره، فلما كان الغد وأرادوا تجهيز النبي صلى الله عليه وسلم، ايضاً تشاوروا، فقالوا: أنغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثيابه أم نجرده كما نجرد موتانا؟ فلم يجرء احدٌ أن يعطي فيه قولاً قال الصحابة: فألقى الله علينا النعاس فنمنا جميعاً،
وإن لحانا لتدق صدورنا، ولم يبقى يعي إلا ازواج النبي وآل بيته في الداخل، ثم سكتوا وساد الهدوء في المكان، ولم يظهر صوت ابداً حتى سمعوا صوت رنينٍ جميلٍ يخرج من حجرته صلى الله عليه وسلم، قالوا: لا نشك أنه صوت جبريل، فقال: لا تجردوا رسول الله واغسلوه في ثيابه، ثم قال معزياً: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت، المحروم من حُرم الفضل والأجر، إنا لله وإنا إليه راجعون، هذا آخر عهدنا بالأرض، قال الصحابة: فعلمنا أنه صوت جبريل عليه السلام، ودخل على النبي صلى الله عليه وسلم أربعة يغسلونه، علي والعباس والفضل بن العباس وأسامة بن زيد، فجهزوا له الماء ووضعوا به نبات السدر، وشرعوا في غسله في ثوبه، فكان العباس والفضل يمسكون جسد النبي، وأسامة يكب الماء وعلي يغسله، دون أن يكشف جسده، إلا ان علي وضع على يده قطعة من قماش وأدخلها من داخل الثوب يتمم سنة الغسل أولاً، ثم دلكوه في ثوبه وريح المسك يفوح منه صلى الله عليه وسلم، وأخذ علي يغسله وهو يبكي ويقول: طبت حياً وطبت ميتاً يا رسول الله، ثم أضافوا إليه ثوبين ثم لفوه صلى الله عليه وسلم بالدرج، فتذكر علي حديثا سمعه والصحابة في اول مرضه، قال لهم النبي: (إذا أنا متُ، ولحقتُ بالرفيق الأعلى، فضعوني على سريري، واخرجوا عني جميعاً، فأول ما يصلي عليَّ جبريل والملائكة ثم تنزل ملائكة السماوات السبع يصلون علي، فإذا غبتم عني ساعة، فليدخل وليبدء علي الصلاة أهل بيتي أولاً رجالاً، ثم نساء أهل بيتي ثم يدخل من بعدهم المسلمون افواجاً افواجاً.