أمرهم ابو سفيان، أن يجعلوا له خشبة، فاوثقوه بها، وأقترب منه ابو سفيان وقال: أنشدك الله يا خبيب أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك؟ قال: لا والذي بعثه بالحق ما احب ولا ارضى، ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه، وإني جالساً في أهلي سالماً معافا، دعوني أصلي ركعتين ثم صلى بكل خشوع، والتفت إليهم، وقال: والله لولا أن تظنوا بي جزع من الموت لطولت في الصلاة اكثر ولكن هيَّ، ثم أوثقوه ورفعوه على خشبة واقترب منه أبو سفيان وقال له: يا خبيب أرجع عن الإسلام، وانا اطلق سراحك قال: لا والله لو كانت لي مئة نفس، وأزهقتموها نفساً نفساً ما رجعت عن ديني ابداً،
فأحضروا اربعين غلام واعطوا كل واحد منهم رمحاً صغيراً، ويقولوا لكل غلام هذا خبيب قتل ابوك يوم بدر فأقتله، فلما رأى خبيب أنه الموت لا محالة بهذه الطريقة وأرادوا ان يقهرونه فوجهوه الى المدينة فرفع خبيب طرف عينه للسماء،
وقال: اللهم إني لا أرى إلا وجه مشرك وعدو، اللهم اقرء نبيك عني السلام، وأعلمه ما تصنع بنا قريش اليوم، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً ولا تبق منهم أحدا.
قالت زينب: فلا ندري إذ انفتلت خشبته حين همت روحه أن تصعد فأستدار وجهه الى البيت الحرام فسمعنه يقول: الحمد لله الذي وجهني الى قبلة يرضاها اشهد أن لا إله الا الله وأن محمد رسول الله، وأما زيد رضي الله عنه، سأله أبو سفيان كما سأل خبيب واجاب كما خبيب، فقال أبو سفيان وهو يضرب كفًا بكف: ما رأيت ولا علمت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا،
قالت الصحابة: في هذه اللحظة كان النبي يحدثنا بما فعلت قريش بأصحابه ويقول قد لقوا اصحابكم ما لقوا من قريش، فسكت واغفى اغفاءة كالتي تأتيه عند نزول الوحي، ثم سمعناه يقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يا خبيب. قال الصحابة: فدهشنا ففتح عينيه ونظر إلينا وقال: (إن أخاكم خبيب تقتله قريش الآن وقد طلب من الله تعالى أن يقرأني عنه السلام، فهذا جبريل يقرئني سلام خبيب) ثم قام النبي وقد دمعت عيناه ودخل حجرته. كفكف دموعه ورجع الى اصحابه وقال: (إن القوم عزموا على ترك صاحبكم خبيب على خشبته تضربه الرياح والرمال والشمس، انطلق يا زبير انت والمقداد، فتسللا حتى تدخلا التنعيم ليلاً وأنزلا صاحبكما من خشبته)،
قال الزبير: فوصلنا فوجدناه يحرسه عشرة من الرجال، فغافلناهم حتى دنوت من الخشبة ففكت وثاقه، ولم أستطع أن أحمله، فإنه كان غضاً طرياً طيب الريح، كأنه حي على خشبته، فأنفلت من يدي فوقع على الارض فكانت له هدة، فأنتبه القوم، فأستترت خشية أن يعلموا بنا، ولكي أعود وأخذه فلما انتبه القوم، وأحاطوا بالمكان، أخذت أنظر فلم أرى جثة خبيب يا رسول الله. واخذوا يبحثون يقولون سقط عن الخشبة فأين ذهب فأبتلعت الارض خبيب، فقال النبي للزبير: (صدقت فلقد أخبرني بذلك جبريل فقد أبتلعته الارض)
فسمي خبيب بليع الارض.