وصل جيش الأحزاب للمدينة المنورة، وذهلوا عندما راوا الخندق، فلا يستطيع أحد اذا سقط فيه أن يخرج منه، وجعل المسلمون مخلفات الحفر ناحية المدينة، فشكلت ساترا يمكن للمسلمين الإختباء خلفه، ورمي العدو بالسهام، وتوزع المجاهدون أمام الخندق، ووقف جيش الأحزاب خلف الخندق وعدده عشرة آلاف مقاتل، فقال أبو سفيان: هذه حيلة لم تعرفها العرب، وقال حيي سيد يهود: سمعت أن بين أصحاب محمد رجل فارسي، وهذه مكيدته وأظن هو الذي أشار عليهم بحفر الخندق،
وشاهد المسلمون هذا الجيش الضخم وقالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله، فأنزل الله قوله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}،
وكان مقر النبي عند جبل سلع، وأمر النبي أن تكون النساء والأطفال داخل الحصون،
أخذ فرسان المشركين يدورون حول الخندق غضبا، يحاولون أن يجدوا نقطة ضعف، والمسلمون يرمونهم بالسهام حتى لا يقتربوا من الخندق أو أن يحاولوا أن يردموا جزء منه ليعبروا عليه، وبدأت مناوشات بين الطرفين، فعز على قريش أن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام الخندق فأخذوا يستفزون بعضهم بعضاً، فجالوا بخيلهم اقبالاً وادباراً حتى حمسوها،
فأقتحم الخندق من أضيق مكان فيه ثلاثة رجال عكرمة بن أبي جهل ورجل من ربيعة وعمرو بن ود الملقب بفارس العرب، وكان قد حرم على نفسه منذ يوم بدر الدهن حتى يأخذ بثأره من المسلمين، وأقسم لن يرجع إلا منتصراً او محمولاً وقد اشرف عمره على تسعين عاما. فأصبح بين الخندق وجبل سلع ونادى عمرو بن ود من للمبارزة يا أصحاب محمد؟ أين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منكم دخلها؟ هل فيكم من أرسله إلى الجنة، أو يدفعني إلى النار؟
فوثب له علي، وقال: أنا له يا رسول الله وقال: (نعم وعلى بركة الله) ثم اخذ النبي سيفه عن جنبه واعطاه لعلي وقال: (هذا سيف محمد رسول الله) ثم اخذ قطعة قماش وجدلها على رأس علي وقال: (قم على بركة الله، اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته) ثم قال: (تقدم يا علي) فانطلق وهو يقول شعرا:
[ لا تعجلنَّ فقد أتاك // مجيبُ صوتكَ غير عاجزْ ,,, ذُو نية وَبصيرة // والصدقُ مُنجي كلّ فائز ,,, إنّي لأرجو أن أُقيمَ // عليكَ نائحة الجنائزْ
مِنْ ضَرْبَة نَجلاء يَبقى // ذكرُها عِندَ الهَزاهِزْ ].
لما سمع النبي شعر علي قال: (قام الإيمان كله، الى الكفر كله)، ومشى إليه علي على قدميه لم يركب فرس وهو على فرسه يجول ويصول، فقال له: يا عمرو إنك كنت تقول لا يدعوني أحد إلى اثنتين، إلا اخترت خيرهما وإني مخيرك بين ثلاث؛ فإني أدعوك أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ، وتسلم لرب العالمين، فقال: يا ابن أخي أخر عني هذه، فقال علي: أما أنها خير لك لو أخذتها،أما الثانية ترجع إلى بلادك، وتحمل قومك على العودة، وتدع محمدا فإنه رجل منكم وعزه عزكم وشأنه شأنكم فإن يك محمد صادقا كنت أسعد الناس به، وإن يك غير ذلك كان الذي تريد، فقال: هذا ما لا تتحدث به نساء قريش أبداً، ثم قال علي: فالثالثة أدعوك إلى البراز، فقال: فمن أنت يا ابن اخي؟ قال: أنا علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا فتى إن أباك كان وداً لي، وإني اكره ان اهرق دمك وإن من أعمامك من هو أسنّ منك فأرجع من حيث أتيت وليبرز لي غيرك وإني لأكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك، وقد كان أبوك لي نديماً، فردَّ علي: أما انا فإني أبغض الكفر فيك، وإن أحب شيء الى قلبي اليوم أن أهرق دمك، فأستفزه وثار وغضب غضباً شديداً فجال بالفرس جولتين ثم أسرع وسل سيفه كأنه شعلة نار وأقبل مهاجماً، ورفع السيف فوق علي يريد أن يضربه فتلقاها علي بالترس، فعلق سيف عمرو في ترس علي فضربه علي ضربةً واحدة فإذا هو قتيل فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبر الصحابة وعلا صوتهم بالتكبير،
عندما رأى الذين اقتحموا الخندق أسرعا بالفرار، فلحقه الزبير وأدركه عند حافة الخندق فضربه بالسيف من على عاتقه فقسمه نصفين حتى وصل السيف الى ظهر الفرس فأتمها الى نصفين فقال الصحابة: ياله من سيف قال لهم: بل قولوا يالها من ساعد، والله ماكان السيف إنما هو ساعد أستعان بالله عليه، فأقبل علي نحو رسول الله ووجهه يتهلل فقال له الصحابة: هلاّ سلبته يا علي درعه، فإنه ليس في العرب درع مثلها؟ فأطرق رأسه وقال: عندما ضربته يا رسول الله وسقط على الارض استقبلني بسوءته فأستحييت أن انظر إليه،
وكان عكرمة بن ابي جهل قد ألقى السيف والرمح من يده وهرب بشكل جنوني، فقام حسان بن ثابت يهجو عكرمة فقال:
[فَرَّ وَأَلقى لَنا رُمحَهُ // لَعَلَّكَ عِكرِمَ لَم تَفعَلِ ,, وَوَلَّيتَ تَعدو كَعَدوِ الظَليمِ // ما إِن تَجورُ عَنِ المَعدِلِ ,,, وَلَم تُلقِ ظَهرَكَ مُستَأنِساً // كَأَنَّ قَفاكَ قَفا فُرعُلِ].
فتأثر عكرمة واشتعل غضباً من هذا الشعر.