وبعد أن عفا النبي عن قريش، فاكمل خطبته: (إن مكة حرَّمها الله يوم خلق السماوات والأرض، ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحُرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب). ثم نزل صلى الله عليه وسلم يستقبل بيعة من يريدون الدخول في الاسلام، وجلس في صحن الكعبة ووقف بجانبه ابو بكر وعمر وعلي بين يديه يقدم له الناس افواجاً ليبايعوه، فتزاحمت قريش تبايعه، ولا يزال يحمل مفتاح الكعبة، فطلب العباس أن يعطيه مفتاح فيكون له ولأبنائه من بعده ولبني هاشم شرف الإحتفاظ بمفتاح الكعبة، والعناية بشئونها من تنظيف وكسوة وغير ذلك، فأراد أن يجمع بين السقاية والسدانة، فرفض ذلك، وطلب أيضا علي رضي الله عنه منه أن يجمع لبني هاشم السقاية والسدنة، فقد أنزل الله على نبيه وهو في داخل الكعبة: { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}، فقال النبي: (يا علي رد المفتاح الى عثمان) فأخذه عثمان، وقال له: (خذوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم)، فلما مات عثمان انتقلت السدانة الى أخيه شيبة ثم توارثها أبناءه الى يومنا هذا، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فاخذ يدعو الله تعالى ويذكره، وحانت صلاة الظهر فأمر بلال، فصعد فوق الكعبة وأذن للصلاة، وصلى النبي بالمسلمين، ثم ارسل مناديا ينادي: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلّا كسره)، وقال أسامة بن زيد للرسول: ألا تنزل في دارك؟ فقال النبي: (وهل ابقى عقيل لنا دارا)، فلم برد هذه البيوت تأليفا لقلوب من أسلم منهم
ولأنهم هجروها في الله تعالى، ثم ضربت خيمة صغيرة للرسول صلى الله عليه وسلم في الأبطح، فنزل فيها وزوجتاه أم سلمة وميمونةرضي الله عنهما،
وجاء أبو قحافة والد أبي بكر الصديق قد تجاوز عمره تسعين عاما، ممسكا بيده ابو بكر يقوده، فلما رآه النبي قال له: (هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه؟)، فقال أبو بكر: يا رسول الله، هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي أنت إليه. فمسح النبي على صدره وقال: (اسلم تسلم)
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله. فقال ابو بكر: والذي بعثك بالحق لإسلام أبي طالب كان أقر لعيني من إسلامه، وذلك لأنه كان أقر لعينك، وكان رأس أبي قحافة ولحيته كالثغامة
فقال: (غيروهما، وجنبوهما السواد) وفي رواية (واجتنبوا السواد)