مقاطعة الثلاثة المتخلفين عن تبوك

بدأت أول مراحل الابتلاء، قال كعب: وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا، لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله، بما اعتذر به إليه المخلّفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله لك، قال كعب: فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله فأكذب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم، لقيه معك رجلان هلال بن امية ومرارة بن الربيع قالا لرسول الله مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك فقلت: مرارة بن ربيعة، وهلال بن أمية؟ رجلان اعرف صلاحهما وصدقهما، فطمأنت نفسي، لقد ذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا، فيهما أسوة ثم كان الابتلاء الثاني، حيث نهى رسول الله كافة المسلمين عن التعامل معهم، وكان ذلك شديدا عليهم، قال كعب: حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، واستمرت المقاطعة بكل ثقلها وآلامها خمسين يوما، ذاقوا فيها من المصاعب، قال كعب: فلم يكلمنا من المسلمين احد كنا نطرح السلام على الرجل فلا يرد علينا احد، أما صاحبي لزما بيتهما واخذهم البكاء ، وكنت اشب منهما فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله فأسلم عليه، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر، فكنت إذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ وإذا انتهيت من الصلاة صرف نظره عني، وكنت اخشى أن تقبض روحي وانا بهذه المقاطعة، فإن الاعمار بيد الله فاموت، فكنت اتمنى أن تنتهي هذه المقاطعة فأموت فيصلي علي النبي، مضى الشهر وجاء رسول من رسول الله وقال لي: يا كعب يأمركم رسول الله ان تعتزلوا نسائكم، فقلت لزوجتي ألحقي بأهلك حتى يحكم الله فينا، واصبحت أبيت على سطح داري واتوجه الى الله بالدعاء، وجاءت زوجة هلال بن امية وكان كبير بالسن وليس عنده من يخدمه فقالت: يا رسول الله بأبي انت وامي، إن هلال كبير في السن وليس هنالك من يخدمه اتأذن لي ان أصنع له طعامه واغسل له ثيابه؟ قال: (اخدميه ولكن لا يقربنك بشيء فإنه لا يحل له ذلك)، فقالت: بأبي وامي انت والله مابه حراك بشيء، فإنه منذ أن أمرت الناس بمقاطعته ما جف له دمع ولا تناول طعام ولا نام بليل، قال كعب: حتى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين مشيت حتى تسوّرت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إليَّ، فقلت: يا ابن عم السلام عليك، فوالله ما ردَّ علي السلام فكررتها فلم يرد علي السلام، فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمن أني أحب الله ورسوله؟ قال: فسكت فاعدت السؤال فسكت ولم يرد علي بشيء، فكادت ان تزهق روحي فصرخت بأعلى ما املك من صوت نشدتك الله هل تعلمن أني أحب الله و رسوله؟ فقال ابا قتادة بصوت منخفض بينه وبين نفسه: الله ورسوله اعلم، ففاضت عيناي بالبكاء وتوليت، جاءه الابتلاء الثالث، قال كعب: وبينما أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من نبط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدلني على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون له إليَّ حتى جاءني فدفع إليَّ كتابا من ملك غسان مكتوب بماء الذهب وكنت كاتبا فقرأته فإذا فيه من ملك غسان الى كعب بن مالك أما بعد، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك، ويعلم ملك غسان لو ارتد كعب عن دينهه لكان له أثر في شق صف المسلمين، فكان هذا الكتاب بمثابة الابتلاء فحين قرأت الرسالة فتوجهت مسرعاً الى منزلي ورميت بها بالتنور فسجرتها به حتى لا تميل لها نفسي يوما، ثم توجهت نحو المسجد، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، فدخلت فسلمت فلم يرد علي احد فقلت: بأبي وامي انت يا رسول الله لقد طال هجرك لي حتى طمع بي أهل الروم، فلم يرد علي بشيء ولم يحرك ساكناً، فطفقت أبكي في المسجد بصوت مسموع، حتى قارب هجرنا خمسين ليلة، فصليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا.

🌾
🪷
🌾

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *