صام صلى الله عليه وسلم رمضان للمرة العشرة في دار الهجرة واعتكف عشرين يوماً، وقرأ له جبريل ما نزل من القرآن مرتين، ولاحظ اصحابه شيئاً لم يشهدوه من قبل وهو تواجد النبي صلى الله عليه وسلم بينهم في اغلب الساعات، وتكثيفه وعظه وأرشاده، فأستشعروا إنما يودعهم وكأنها اخر سنة من سنين عمره صلى الله عليه وسلم، فقال لأصحابه: (كان اخي جبريل يراجعني القرآن في كل عام مرة أما هذه السنة فقد راجعنيه مرتين)، فلما انصرم رمضان أعلن صلى الله عليه وسلم لأصحابه وارسل الى جميع المسلمين في كافة البلاد أنه خارجاً للحج في هذا العام، فمن أراد أن يشهد الحج مع الرسول صلى الله عليه وسلم فليأتي الى المدينة المنورة، وقد حج مرة واحدة في السنة العاشرة للهجرة، واعتمر اربع مرات، وبعد أن طهرها صلى الله عليه وسلم عام الفتح من الأصنام، أصبحت الكعبة رمزاً لعبادة الله تعالى وحده، وعادت كما طهّرها إبراهيم عليه السلام للطائفين والعاكفين والركع السجود. بدأت الوفود تصل الى المدينة المنورة من كل أنحاء الجزيرة، وضربت لهم الخيام وبلغ عددهم اكثر من مئة وعشرين ألف، لقد امتلأت المدينة وكلهم يريد أن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم لينال شرف الصحبة، وفي يوم الجمعة الخامس والعشرين من ذي القعدة رقى صلى الله عليه وسلم منبره، وخطب بهم الجمعة ولم يتسع المسجد لهذه الأعداد الهائلة، وأمر النبي رجال خارج المسجد أن يبلغوا الناس عنه، فحثهم على تقوى الله، وأن يعقدوا النية للحج فقال لهم: (من حج فلم يرفث، ولم يسخط، رجع من حجه كيوم ولدته أمه)، وأمر النبي ازواجه ان يتجهزن للحج جميعاً؟ وصلى بالحجيج الظهر من يوم السبت اربع ركعات لا قصر فيها ولا جمع، ودخل الى حجرة امنا عائشة، فأغتسل وتجهز تقول امنا عائشة: فأتيته بالغالية فتطيب وأكثر من الطيب حتى وكأني أنظر الى وبيص المسك في مفرقه قبل عقد نية الأحرام ثم فرق شعره نصفين وألقى نصفه على يمينه ونصفه على شماله صلى الله عليه وسلم، ولبس ثياب الإحرام ثوبين ابيضين، وخرج وأطل على اصحابه واكثر الوفود التي أتت لم تكن رأته من قبل، وكثير من اصحابه لم يراه قبل اليوم محرماً فلما أطل عليهم ضجت المدينة كلها بالصلاة عليه، فحياهم وسلم عليهم ثم ركب ناقته، قال الصحابة: كان الناس حول النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه وعن شماله ومن خلفه وبين يديه مد البصر. وكان قد قال صلى الله عليه وسلم: (كنت نبياً وآدم منجدل في طينته بين الروح والجسد)، كان نبياً في أصلاب الرجال وأرحام الأمهات يتنقل نوره من الأصلاب الطيبة الى الأرحام الطاهرة حتى أستقر في صدفة أمه، فولد نبيا ونشأ صبياً يتيماً وبلغ الحلم نبيا ولكن لم يوحى إليه، فنقول: قبل الوحي وبعد الوحي.