كانت قريش في قمة أرتباكها، فأرسلت الى زعماء القبائل المحيطة بمكة، فحضروا، وأرسل النبي إلى قريش خِراش بن أمية رضي الله عنه ليخبرهم، فاعترضوه وعقروا ناقته وحاولوا قتله لولا أن منعهم سيد الأحابيش، فرجع الى النبي وأخبره بما حدث. ارسلت بديل سيد خزاعة ومعه نفر من قومه، جاء وجلس الى النبي، فقال: ما أقدمك يا محمد؟ قال: (كما ترى نحن محرمون قد قدمنا الهدي، وقلدناه واشعرناه، نريد أن نعظم هذا البيت ونتطوف به كسائر العرب)، فأخذ يحاول تخويف النبي، فقال: يا محمد أنا أصدقك إني تركت كعب ابن لؤي، وعامر بن لؤي قد نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العُوذ المطَافِيل: وهم مقاتلوك وصادَوك عن البيت، قال: (إنا لم نجيء لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم، ويخلوا بيني وبين الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإن هم أبوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره)،فأفحم وسكت ولم يعرف ما يرد وقال: سأبلغهم ما تقول إنما أنا رسول ثم رجع وحدثهم بما قال النبي، ونصحهم ألا يصدونه وانه جاء معتمراً، لا مقاتلاً كما تزعمون، فاتهمته بميله للنبي، وقالت: اجلس لم تكفنا شيئاً، ثم ارسلت الحليس سيد الأحابيش مع عدد من رجاله، فلما رآه النبي مقبلًا، قال: (لقد ارسلوا إليكم قوم يعظمون البدن، انه رجل يتأله، فقدموا الهدي في وجهه ليراه)، فقال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت. وعاد مسرعا دون أن يكلم النبي وقال: ويحكم يا قريش، تصدون عن البيت من يعظم شعائر الله؟ إني رأيت ما لا يحل منعه، وما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا، إنكم تعنفون على محمد وتسيئون به الظنون جاء معتمرا، قالوا له: اجلس يا حليس فإنما أنت أعرابي ولا علم لك، فغضب وقال: يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم يُصدّ عن بيت الله الحرام من جاءه معظِّماً؟ورب هذا البيت لتخلّون بين محمد وما جاء به أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد حتى أكون معه عليكم، فاسترضوه واجلسوه وقالوا: لا عليك يا حليس، سنأخذ منه ونعطي، ثم أرسلت عروة بن مسعود سيد الطائف، فقال: انا رجل لا أرضى الإتهام، وتعلمون أني جئت بقومي حتى أكون معكم، قالوا: أنت لست متهم، قال: فإن أتيته وقلت رأيي فيه، فأنا لا أرضى أن تخالفوني الرأي، فأقبل ومعه رجال من قومه حتى أناخ راحلته عند رسول الله واقترب منه، خافوا على النبي الغيلة، فقام المغيرة ابن شعبة الثقفي، فوقف على رأس النبي يحرسه، فجلس عروة على ركبتيه، وتربع النبي، فقال عروة: لماذا قدمت يا محمد؟ قال: (ألا ترى يا عروة نحن محرمون ومقلدون الهدي ومشعرون، رافعين الصوت بالتلبية شعثاً غبراً نريد أن نتطوف بهذا البيت كسائر العرب) قال: لقد تركت قريش وعزمت ان لا يخلون بينك وبين البيت، ولا تدخلها عنوة، فإذا أبيت قاتلوك ويخذلك من معك، فإني لا أرى معك إلا أوباشاً من الناس، لا أعرف وجوههم ولا أنسابهم، فغضب أبو بكر لهذه المقالة، ورد عليه بعبارة صادمة وقاسية، فصدم ووصلت له الرسالة واضحة، قال وهو مصدوم ومغضب: من هذا يا محمد؟ فأبتسم وقال: (ألا تعرف ابن أبي قحافة يا عروة؟ إنه أبا بكر)، قال: أما والله لولا يدٌ لك عندي لم أجزك بها بعد لأجبتك، ثم أخذ يكلم ويلاطف ويتوسل ويمس لحية النبي برؤوس اصابعه، فكان كلما مد يده قرعها المغيرة بذيل السيف، وقال: اكفف يدك عن مس لحية رسول الله قبل ألا تصل إليك، فلما أكثر المغيرة من ضربه، قال: يا محمد من هذا فأبتسم النبي وقال: (هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة يا عروة)، فنظر اليه وقال: يا غُدر، ما غسلت ديتك إلا بالأمس، وأحضروا الماء للنبي ليتوضأ للصلاة، فاقتتلون على وضوئه، فعاد مرعوبا وقد تغيرت مفاهيمه، فقال لقريش: والله لقد وفدت على الملوك، وعلى قيصر وكسرى والنجاشي، ووالله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمداً، ما أمر أمراً إلا ابتدروا اليه، واذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، ولا يحدون البصر في وجهه تعظيماً له، وإذا نظر الى مكان، نظروا الى ما ينظر، واذا توضأ ثاروا يقتتلون ٠على وضوئه، ولا يبصق بصقة إلا وقعت في كف احدهم يدلك بها وجهه وجلده، وإني ناصح لكم، فوالله أنكم إن أردتم السيف بذلوه لكم، فوالله لقد رأيت قوماً لا يسلمونه أبداً وفيهم عين تطرف، اتركوه وشأنه، فإن اصابته العرب فذلك ما ترجون وإلا فعزه عزكم قالوا: اجلس وما أنت بمتهم، ودعنا نأخذ ونعطي قال: كم تأخذون وتعطون؟ لا والله لا أشهد لكم مهزلة، فنهض مع قومه، فضعفت شوكة قريش، قالوا: أردنا امراً، فقلبه محمد علينا رأساً على عقب.