قال حذيفة: فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام، فلما دخلت في جيشهم فإذا بالريح شديدة وقاسية البرودة، قلبت قدورهم، ولا تدع خيمة الا قلعتها وأطفئت نيرانهم، واقتلعت خيامهم، تعسف الرمال في وجههم، كأنها القيامة، فأخذت اتسلل حتى جئت قوماً بينهم نار
وعلى ضوئها رأيت رجلاً جسيماً، يضع كفيه فوق النار ويمسح بها خاصرته، فلما دنوت منهم علمت أنه ابا سفيان من كلامه مع القوم، ووالله لقد اخذت سهمي ووضعته في قوسي ولوشئت لغرزته في كبده تماماً، فإذا بصوت رسول الله صلى الله عليه وسلم أأتيني بخبر القوم ولا تذعرهم عليَّ، فلم أفعل، ثم جلست بين القوم،
فقال أبو سفيان: يا معشر قريش لينظر امرؤ من جليسه؟فبادرت وضربت بيدي على فخذ الذي على يميني وقلت له: من أنت؟ قال: معاوية بن أبي سفيان، ثم ضربت بيدي على فخذ الذي على شمالي وقلت له: من أنت؟ قال: عمرو بن العاص، وغفل القوم عني فلم يفطنوا لي ولم يسألني احد من انا، ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا مع بني قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، واخشى ان تتفق قريظة ومحمد الليلة عليكم فارتحلوا فإني مرتحل، فقام وجلس على بعيره دون أن يحل عقاله، فوقف بعيره على ثلاثة أرجل، وقفز به البعير قفزتين، فضحك عليه صفوان بن امية بملء فمه وقال: يا سيد قومه حُل بعيرك اولاً فقام معاوية وحل عقال البعير، ثم التفت ابو سفيان الى القوم وقال: يا خالد بن الوليد، تدبر أمر الساقه واني متقدمكم الى مكة، فانطلق وترك قومه قبل أن يرحلوا، فمكثت واختبأت، واخذ القوم يستعدون للرحيل
ثم عدت، وانا في الطريق أستقبلني رجلان عليهما ثياب بيض، وعمائم يركبون الخيل فقال لي احدهما: اخبر صاحبك أن قريش لن تغزوه بعد اليوم ابداً، وأنه هو الذي يغزوها، فلما رجعت الى النبي فوالذي بعثه بالحق، تركته يصلي ورجعت إليه وهو قائم يصلي، وعليه برد يماني فلما دخلت خيمته، عدت اقرقف كما كنت من قبل،
فلما انتهى صلى الله عليه وسلم، أخبرته بخبر القوم وخبر الرجلين، فقال لي: (أعلمت من كان يكلمك؟)، قلت: الله ورسوله اعلم، قال: (هذا اخي جبريل) ثم غطاني بالعباءة التي كان يصلي فيها، فنمت حتى الفجر، فما ايقذني إلا قول النبي: (قُم يا نومان، لقد طلع الفجر)، فصلى بنا الفجر، ثم وقف النبي صلى الله عليه وسلم واخبر اصحابه: (ان الله قد هزم الاحزاب وحده وارسل عليهم جند من جنوده وهي الريح، وارسل الملائكة
كانت تتبع أدبار الخيل تضربها فتسرع، حتى قطعوا في يوم واحد مسافة ثلاثة ايام، من شدة الخوف)، انسحبت قريش ثم غطفان واستمر انسحابهم من الفجر الى قريب الظهر، وقال النبي: (الآن نغزوهم ولايغزونا، نحن نسير إليهم)، ثم قال: (قولوا: الله اكبر، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، ولا شيء بعده)، فأخذوا يرددونها وانطلقوا الى منازلهم، فأنزل الله تعالى كما نطق سعد {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا}.